فصل: مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور، وغلب الروم الفرس:

وعليه يكون المعنى يعلمون ما هو زائل فان، ولا يعلمون ما هو دائم باق والفاعل يعود على اكثر، ومن هذا القسم أن مخترع القوة الجاذبية حيث كانت قطئة تشغله بذهابها وإيابها من فتح الباب لها وغلقه، ففتح لها نفقا تحت الباب، فصارت تخرج وتدخل منه دون كلفة، واستراح منها، ثم أنها ولدت ولم ينتبه أن ذلك النفق كان لها ولأولادها فعمد وفتح لكل نفقا، مما يدل على أن الذكي البارع في شيء قد يكون أبله في غيره.
وكذلك مخترع الخطوط الكهربائية أعطته خادمته بيضة كي يسلقها وقالت له أبقها على النار خمس دقائق، فأخرج الساعة ووضعها بالدلة وأمسك البيضة بيده، فقالت له للآن وأنت واضع البيضة على النار؟! فقال لها لم تمض الخمس دقائق بعد، فنظرت وإذا البيضة بيده والساعة في الدلة، فعكست الأمر.
فالذي يكون عن هذه الأمور التافهة غافلا فمن باب أولى أن يكون المشغول بالدنيا أغفل بكثير عن أمور الآخرة لاسيما وأن منها ما هو غير معقول، كما يدل عليه قوله: {وَهُمْ عَن الْآخرَة هُمْ غافلُونَ} 7 ساهون لا هون بالدنيا لا ينظرون إلى ما يتعلق بها، ولا يصرفون حواسهم لما خلقت لها، لأن اللّه تعالى طبع عليها وسلبهم منافعها فصدّت عقولهم عن النظر إليها، أجارنا اللّه من ذلك.
وسبب نزول هذه الآية أن كسرى بعث جيشا على رأسه شهربان ليقاتل جيش الروم الذي على رأسه مخيلن، فغلبه بأذرعات وبصرى وهما أقرب أرض للشام إلى أرض العرب، فشق ذلك على المسلمين لأنهم أهل كتاب ويودونهم، وفرح المشركون لأنهم كفرة مثلهم ويحبونهم، فقال المشركون للمسلمين إن قاتلتمونا فسوف نغلبكم أيضا لأن إخواننا غلبوا إخوانكم.
قالوا وبعد نزولها قال أبو بكر للمشركين لا تفرحوا فإن الروم ستغلب فارسا في الحرب القابلة إذ أخبرنا الصادق المصدوق سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم بذلك عن ربه عز وجل، وإخباره واقع لا محالة، فقال له أبي بن خلف اجعل بيننا أجلا نناصبك، أي نراهنك عليه، فجعل الأجل ثلاث سنين، وتراهنا على عشر قلاص، وأخبر أبو بكر حضرة الرسول، وكان القمار لم يحرم بعد، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده بالحطمة ومادده في الأجل، فلقي أبو بكر أبيا فقال له تعال أزايدك في الخطر وأماددك في الأجل، فاتفقا على مئة قلوص إلى تسع سنين من شهر كذا من عام كذا، وإنما فعل هذا أبو بكر لأنه جازم بأن اللّه تعالى لابد وأن يصدق رسوله بما أخبر به لقوة إيمانه، وإلا لو لم يرد اللّه ذلك لما ألقى في قلبه الموافقة على تمديد الأجل بعد أن اتفقا على غيره.
ولما شاع بين الناس أن أبا بكر يريد الهجرة من مكة بسبب الضيق الذي وقع على المسلمين عامة في أذى قريش، أتاه أبيّ وقال له أعطني كفيلا بالحظر إذا أنت نزلت مكة فكفله ابنه عبد اللّه، وبعد الهجرة أراد أبي أن يذهب مع المشركين للاشتراك في واقعة أحد الكائنة في السنة الثالثة من الهجرة، فجاءه عبد اللّه بن أبي بكر وطلب منه كفيلا بالحظر إذا هو مات أو قتل، فأعطاه كفيلا، ثم إنه تلاقى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في حرب أحد وضربه الرسول فجرحه جرحا بليغا مات منه بعد رجوعه إلى مكة، ثم ظهرت الروم على فارس بعد وقعة الحديبية على رأس سبع سنين من تاريخ المراهنة، إذ وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيها الهجرة، وهو تاريخ نزول هذه السورة، فقد هاجر صلّى اللّه عليه وسلم بعدها بقليل إذ لم ينزل عليه بعدها إلا العنكبوت والمطففين، وختم الوحي المكي بهما، وذلك بعد عقد المعاهدة بين شهرمان وقيصر، وقد ضمنا المعاهدة شروطا لم يحبا أن يطلع عليها خاصتهم فضلا عن عامتهم، لأنها تتعلق بمصالح الدولتين، وإذ كانت بحضور ترجمانه، وخافا أن يذيع شيئا منها وكل منهما حريص على كتمانها، فقال شهريان لقيصر السريين اثنين فإذا جاوزهما فشا، فقتلا الترجمان لئلا يفشي شيء من خبر تلك المعاهدة باتفاق الطرفين، ومنذ ذلك التاريخ صار مثلا: كل سر جاوز الاثنين شاع.
وجعلوا لهذه الشطرة صدرا: كل علم ليس في القرطاس ضاع.
فقمر أبو بكر أبيا وأخذ الحظر كله من ورثته، وأمره الرسول بالتصدق به ففعل.
وهذه من الآيات البينات الدالات على صدقه صلّى اللّه عليه وسلم التي اعترف بها المشركون أنفسهم وهي من الإخبار بالغيب.
والحكم الشرعي في هذا هو جواز المقامرة والربا والعقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار على مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد، ولم يجوزه الآخرون.
أما هذه المقامرة فقد وقعت قبل تحريم القمار وكان جائزا متعارفا بينهم، إلا أنه لما كانت التأدية بعد تحريمه وكانت العبرة بالابتداء لأن الأصل إبقاء ما كان على ما كان أخذه أبو بكر، ولو كان أخذه حراما لما أمره بالتصدق به، لأن التصدق بالحرام حرام حتى قيل إن من تصدق بالحرام طلبا للأجر يكفر.
وإنما أمره بالتصدق به نورعا، ولئلا يقول المشركون أخذه أبو بكر مع قول صاحبه بحرمته أو لحاجة فيه.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسهمْ} التي هي أقرب شيء منهم وما أودعها اللّه من غرائب الأشياء وبدايع الحكم فيها ظاهرا وباطنا وانها لابد لها من الانتهاء ليعلموا أن أمر سائر الخلائق جرى على الحكمة الخارقة لابد لها من الانتهاء بالأجل الذي قدّره لها مبدعها وليتحققوا أن {ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماوات وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إلَّا بالْحَقّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} تفنى عند بلوغه {وَإنَّ كَثيرًا منَ النَّاس بلقاء رَبّهمْ لَكافرُونَ} 8 جاحدون البعث بعد الموت {أَوَلَمْ يَسيرُوا} هؤلاء الجاحدون {في الْأَرْض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقبَةُ الَّذينَ منْ قَبْلهمْ} من الهلاك والدمار فيعتبروا في كيفية إهلاكهم وسببه مع أنهم {كانُوا أَشَدَّ منْهُمْ قُوَّةً} لأن الأمم الماضية أكبر أجساما وأقوى جوارح، وأصبر جنانا على الشدة من كفار قريش، لأن آثارهم تدل على ذلك {وَأَثارُوا الْأَرْضَ} حرثوها للزراعة وإخراج المعادن منها {وَعَمَرُوها} بالبناء الضخم والجنان والأنهار والسبل {أَكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها} أهل مكة وغيرهم وحتى الآن لم يبلغ أهل هذا القرن الذي جاء بالبدائع من الكهرباء واللاسلكي والسيارات والطائرات والمدمرات وغيرها مما لم يتصوره العقل قبلا، وما وجد من ضخامة الأبنية وقوتها وهندستها، مما يدل على رقيهم في هذا الفن وغيره من الأمور الدنيوية، كيف وقد وصفهم اللّه تعالى بأنهم يعلمون ظاهرها وهذا كله من الظاهر.
واعلم أن عمارة هؤلاء للأرض كانت بعد عمارة الجنّ، لأنهم تقدموا عليهم في الخلقة وفي سكنى الأرض، والدليل على مهارتهم في البناء والصنائع ما ذكره اللّه تعالى عن عملهم لسيدنا سليمان المحاريب والتماثيل والبنايات والأواني العظام وغيرها، راجع الآية 84 من سورة الأنبياء والآية 25 من سورة سبأ المارقين، والآية 44 من سورة النمل في ج 1، {وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالْبَيّنات} ولم يؤمنوا فأعلكهم اللّه {فَما كانَ اللَّهُ ليَظْلمَهُمْ} بذلك الإهلاك {وَلكنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلمُونَ} 9 لعدم تصديقهم الرسل ولإصرارهم على الكفر {ثُمَّ كانَ عاقبَةَ الَّذينَ أَساؤُا السُّواى} بالرفع اسم كان مؤخر على قراءة من نصب عاقبة وجعلها خبرها مقدما، وبالنصب على أنها خبرها على قراءة من رفع عاقبة على أنها اسمها، وتطلق السوءى على أسوإ العقوبات، وقيل هي أحد أسماء النار، أي أن جزاء المسيئين أسوأ الجزاء وهو النار التي هي أسوأ من كل سوء، وما ندري لعل ما عند اللّه ما هو أسوا وأسوا وإنما كانت تلك للعاقبة المشئومة عاقبتهم {أَنْ كَذَّبُوا بآيات اللَّه وَكانُوا بها يَسْتَهْزؤُنَ} 10 فعاقبهم بأسوء العقوبات.
{اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} جليله وحقيره فينشئه شيئا فشيئا، ثم يميته بعد انقضاء أجله {ثُمَّ يُعيدُهُ} حيا كما بدأه {ثُمَّ إلَيْه تُرْجَعُونَ}.
11 بعد الحياة الثانية للحساب والجزاء على ما وقع منكم في حياتكم الدنيا {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلسُ} ييأس ويتحير {الْمُجْرمُونَ} 12 إذ تنقطع حجتهم فيسكتون.
والإبلاس الحزن المفرط لشدة اليأس، ومنه اشتق إبليس، يقال أبلس إذا يأس من كل خير يريده وإذا تحير في كل أمره وسكت وانقطعت حجته، وأبلست الناقة إذا لم ترع من شدة الضيعة أي كثرة اشتياقها للفحل، وإنما يبلسون في الآخرة لظهور خطأهم وخيبتهم مما كانوا يأملونه من شفاعة أوثانهم، قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ منْ شُرَكائهمْ} الدين اختصوا بهم في الدنيا وأصنامهم التي عبدوها من دون اللّه {شُفَعاءُ} يشفعون لهم كما كانوا يغرونهم ويزعمون صدقهم {وَكانُوا بشُرَكائهمْ كافرينَ} 13 إذ تنبرأ منهم ويتبرءون منها وكان كفرهم بالدنيا بسببها.
وهذا مما أوجب حيرتهم ودهشتهم حتى أبلسوا {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ} 14 أهل الجنة وأهل النار بعد الفصل بينهم، إذ يقول اللّه تعالى: {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرمُونَ} الآية 59 من سورة يس في ج 1، أي انفصلوا عن المؤمنين فينفصلوا حالا بحيث لا يبقى مجرم بين المؤمنين، ولا مؤمن بين المجرمين بمجرد هذا الأمر {فَأَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} 15 يسرون فيها سرورا عظيما.
يقال حبره إذا أسره سرورا تهلل منه له وجهه بالبشر وظهر فيه أثره {وَأَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا} المنزلة على أنبيائنا {وَلقاء الْآخرَة} وأنكروا البعث بعد الموت {فَأُولئكَ في الْعَذاب مُحْضَرُونَ} 16 لا يغيبون عنه أبدا أما المؤمنون العصاة فقد أشار اللّه إليهم في آيات أخر لأنهم لم يدخلوا في هذين الفريقين أما عدم دخولهم مع المؤمنين إذ قرن إيمانهم بالعمل الصالح وهم ليسوا من أهله، وأما مع الكافرين فلأنهم لم يكذبوا آيات اللّه ورسله ولم ينكروا البعث، وإنما هم جماعة قصروا عن أعمال الخير وفرطوا باتباع الأهواء فلهم جزاء غير هذا بنسبة كسبهم.
وهذه الآية المدنية في هذه السورة.

.مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث:

قال تعالى: {فَسُبْحانَ اللَّه حينَ تُمْسُونَ} أي سبحوا اللّه أيها الناس ونزهوه في هذا الوقت، ويدخل فيه صلاة المغرب والعشاء المشتملان على التسبيح {وَحينَ تُصْبحُونَ} 17 عظموه أيضا ويدخل فيه صلاة الصبح {وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّماوات وَالْأَرْض} في هذه الأوقات وغيرها إذ يسبحه فيها من خلقه من نعرف ومن لا نعرف وما لا نعرف ويحمده أيضا، قال تعالى: {وَإنْ منْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبّحُ بحَمْده} الآية 44 من الإسراء في ج 1، {وَعَشيًّا} يدخل فيه صلاة العصر {وَحينَ تُظْهرُونَ} 18 فيدخل فيه صلاة الظهر، انتهت الآية المدنية التي هي آيتان بمثابة ثلاث آيات من حيث العدد.
قال ابن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم وقرأها أعني هذه الآية، ونظيرها الآية 130 من سورة طه في ج 1، والآية 78 من سورة الإسراء أيضا.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم.
وروى مسلم عن سعيد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائة قال كيف يكتب الف حسنة؟ قال يسبح اللّه مئة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة، وذلك أن كل حسنة تمحو خطيئة.
وروى مسلم عن جورية بنت الحارث زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم ورضي اللّه عنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها وهي في مسجدها فرجع بعد ما تعال النهار، فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم، فقال: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك أي التي قلتهن في تلك المدة كلها لوزنتهن: سبحان اللّه وبحمده عدد خلقة ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته».
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «من قال سبحان اللّه وبحمده في كل يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».
وأخرج عنه أيضا عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان اللّه وبحمده مئة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاده» وقال فيهما حديث حسن صحيح.
قال تعالى: {يُخْرجُ الْحَيَّ منَ الْمَيّت وَيُخْرجُ الْمَيّتَ منَ الْحَيّ} راجع تفسيرها في الآية 96 من الأنعام المارة، وله صلة في الآية 28 من آل عمران في ج 3 إن شاء اللّه {وَيُحْي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتها} بالمطر {وَكَذلكَ تُخْرَجُونَ} 19 من قبوركم أحياء مثل خروج النبات من الأرض الميتة.
ثم شرع يبين بعض دلائل قدرته على البعث بعد الموت ليتعظ منكروه فقال: {وَمنْ آياته أَنْ خَلَقَكُمْ} أي أصلكم آدم عليه السلام {منْ تُرابٍ ثُمَّ إذا أَنْتُمْ} أيها الناس من ذلك الأصل الواحد {بَشَر تَنْتَشرُونَ} 20 في الأرض فتلأونها كثرة.
{وَمنْ آياته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ منْ أَنْفُسكُمْ} من جنسها {أَزْواجًا} مثلكم {لتَسْكُنُوا إلَيْها} وهنّ من أعظم النعم عليكم فلو جعلتهن من غير جنسكم لما حصلت الألفة ولما اطمأن الزوج لزوجته {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} من غير سابق معرفة ولا قرابة، ولولا التجانس لما حصلت تلك المودة والرحمة، ولا يوجد سبب لهذا التعاطف والمودة المفرطة إلا الزوجية المتجانسة، وهذا يطلب في الزوجية التجانس في البيئة أيضا ليتوافقا بالأخلاق والعوائد والآداب لأنها مع هذه تكون أكثر ألفة ومحبة ممن يتخالفان في الطبائع إذ يحتاج إلى التطبع عند الاختلاف بغير ما اعتاد عليه الآخر، وقل أن يمكن تغيير الطبع، وقلّ من يقدر على الصبر عند خلافه، وقد أمرت الشريعة بالتكافؤ، ولهذه الغاية ترى حوادث الطلاق كثيرة، فلو تقيد الناس بالتكافؤ لما رأيت رجلا يترك زوجته، وجل مصائب الناس من عدم تمسكهم بشريعتهم {إنَّ في ذلكَ} المذكور في الآيتين {لَآياتٍ} عظيمات دالات على القادر المبدع المبدئ المعيد {لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 21 فيها فيؤمنون بمنشئها {وَمنْ آياته خَلْقُ السَّماوات وَالْأَرْض وَاخْتلافُ أَلْسنَتكُمْ} في الكلام واللغات العربية والفارسية والعبرية والحبشية وغيرها كالقبطية والكردبة والبربوية والسريانية والكورية والإفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية والجركسية وغيرها، مما تفرع عنها وتداخل فيها {وَأَلْوانكُمْ} الأبيض والأسود والأحمر والأشقر والأسمر وما بينهما من الألوان {إنَّ في ذلكَ} الاختلاف الذي أبدعه المبدع جل جلاله لحكمة التعارف باللون واللغة والشكل والصورة والحلية، مع أنكم من أصل واحد {لَآياتٍ} كافيات للإيمان باللّه والاعتراف ببالغ قدرته وعظيم سلطانه، إذ لو اتفقت الأصوات والصور لوقع اليأس بين الناس، فسبحان من أحسن كل شيء خلقه وجعل ما خلق عبرة وعظة {للْعالمينَ} 22 بكسر اللام لأنهم أهل التدبر والتفكر بآيات اللّه، قال تعالى: {وَما يَعْقلُها إلَّا الْعالمُونَ} الآية 44 من العنكبوت الآتية، وقرىء بفتح اللام أي أن تلك الآيات واضحات لا تخفى على أحد، والأولى أولى، ولفظ العالمين بالفتح يدخل فيه من يعقل ومن لا يعقل، فالذي لا يعقل لا ترد عليه الآيات ولا يعقلها، لأن من العالم من هو دون البهائم فلا يعقل ولا يفقه أيضا، لذلك فإن القراءة بكسر اللام أحسن.
قال تعالى: {وَمنْ آياته مَنامُكُمْ باللَّيْل وَالنَّهار وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله} في طلب الرزق وهذه الآية تشير إلى أن النوم كما يكون ليلا يكون نهارا وكذلك السعي يكون فيهما، وإن تخصيص أحدهما للنوم والآخر لطلب المعاش لا يمنع من استعمالهما معا في ذلك، وهو من أجل النعم على الخلق، ولا نعمة من نعم اللّه إلا وهي جليلة، ولكن منها ما هو أجل {إنَّ في ذلكَ} التقسيم وجعل كل من الليل والنهار صالحين للاستراحة والعمل والعبادة، إذ يخلف أحدهما الآخر عند الحاجة.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خلْفَةً لمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا} الآية 62 من الفرقان ج 1، {لَآياتٍ} بالغات في الدلالة على الواحد المعبود بحق {لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 23 سماع قبول فيعون ما يتلقونه من قبل المرشدين {وَمنْ آياته يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} بنزول الغيث وخشية مما يترقب من الصواعق والشهب {وَيُنَزّلُ منَ السَّماء ماءً فَيُحْيي به الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتها} يبسها فيجعلها تهتز بالنبات وتربو بالماء {إنَّ في ذلكَ} الإحياء بعد الإماتة للنبات {لَآياتٍ} دالات على إحياء البشر بعد موته {لقَوْمٍ يَعْقلُونَ} 24 قدرة اللّه ويستظهرون كمال صنعه وبالغ إبداعه في استنباط الأسباب وكيفية التكوين، إذ لا فرق عند اللّه بين الإحياءين، كما لا فرق عنده بين الإماتتين، لأن القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء {وَمنْ آياته أَنْ تَقُومَ السَّماءُ} تقف وتثبت وتمسك نفسها بلا عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية 10 من سورة لقمان المارة وله صلة في الآية 5 من سورة الرعد في 3 {وَالْأَرْضُ} على الهواء والماء بلا مرتكز ولا ماسك فهي والسماء قائمتان {بأَمْره} لهما بقوله جل قوله كونا كذلك، فكانتا حالا بين الكاف والنون، دون مهلة أو تراخ، راجع الآية 11 من سورة فصلت المارة، {ثُمَّ} أنتم أيها الناس كذلك قائمون بأمره، ذلك وإنه {إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً منَ الْأَرْض} المدفونين بها لأجل البعث بنفخة واحدة من بوق إسرافيل عليه السلام {إذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} 25 منها أحياء كحالتكم الدنيوية كاملين غير ناقصين، لأن اللّه تعالى يعيد للأعرج رجله، وللأقطع يده، وللأعور عينه، حتى القلفة، وهذا من قبيل إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال قيام السموات والأرض واستمساكها، ودعاؤكم وخروجكم بأمره.
قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ في السَّماوات وَالْأَرْض} ملكا وعبيدا يتصرف بهم كيف يشاء {كُلّ لَهُ قانتُونَ} 26 منقادون مطيعون له لا لغيره، فالذي لم يطعه فعلا يطعه بالقوة، والذي لم يعظمه قالا يوقره حالا، لأن المراد طاعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة {وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} من شيء {ثُمَّ يُعيدُهُ} كما خلقه بلا واسطة {وَهُوَ} أمر الإعادة {أَهْوَنُ عَلَيْه} وأيسر من الإبداء لأنه كان على غير مثال والإعادة على مثال سابق، لهذا فإن اسم التفضيل هنا على غير بابه، أي أن أهون بمعنى هين، إذ لا شيء على اللّه بأهون من غيره ولا أصعب بأن يحتاج لامر آخر أكثر من الأول، فالعظيم والأعظم والقليل والأقل عنده سواء، لأن أمره لهما واحد لا يعز عليه شيء {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى في السَّماوات وَالْأَرْض} الذي ليس بعده مثل من الوصف العجيب الشان كالقدرة العامة والحكمة التامة والعظمة البالغة {وَهُوَ الْعَزيزُ} الغالب على كل شيء {الْحَكيمُ} 27 في كل شيء العليم بكل شيء.